يد ممدودة في العتمة
( 1 )
أثناء الكتابة، ليس ثمة معان ناجزة أسعى إلى إيصالها إلى شخص آخر. وغالباً ليس ثمة شخص آخر، على التعيين، يحضر وقت الكتابة. فما أن ينتفي هاجس الإخبار في الكتابة حتى تبطل ضرورة الآخر (كحاكم أو حكم قيمة) عند الشاعر.
فعل الكتابة شأن شخصي حميم. إنه خطاب ذاتي يمنح به الشاعر نفسه طاقة خفية وغامضة تجعله قادراً على البقاء. ربما لأن أسباب البقاء لم تعد متاحة بما يكفي كيما تبدو الحياة ذات معنى خارج هذا الإحساس العصي على التفسير. لذلك على الكاتب أن يتواضع قليلاً ولا يزعم بأنه يملك أن يكرز للآخرين ويتقمص دور الرسول المجدّد، المبشر بالتغيير.
( 2 )
لم يعد لديّ أي معنى (ناجز) أنقله إلى الآخر بقصد التعليم.
الحكمة تكمن في قدرتنا على تفادي شهوة الموت التي تجتاح كياننا، وعلى الإنسان أن يبتكر طريقته في مقاومة هذه الشهوة التي لا يكفّ الواقع عن تأجيجها في النفس.
( 3 )
الآخر بالنسبة إلى الشاعر، ضربٌ من سلطة متوقعة عليه تفاديها لحظة الكتابة. كل سلطة تتطلب من الكتابة خضوعاً، ولا تعتقد إلا بما يناقض الحرية. الشاعر يتحصن ضد الآخر، إذا كان شرطاً سابقاً، متشبثاً ببيت الحرية الأخير، وخصوصاً في مكان وزمان عربيين، الحرية فيهما مفقودة. الآخر يحضر لحظة القراءة كفعالية بالغة تعدد الانتاج.
( 4 )
عندما أكتب، إنما أصوغ حالات تبتكر إعادة إنتاج الذات كل مرة بشكل مغاير، وفي كل نص أبدو أمام ذاتي في شكل يحاول أن يتجاوزني. هذه الحالات ليست نزوعاً نحو معنى واضح أو مكتمل في الأصل، بل محض غوايات تستدرج الروح كي تكتشف مقاربات متعددة. والاختلاف في كل مرة، في كل نص، من شأنه أن يجعل المعنى الغائب احتمالاً ممكناً. وإذا صدف أن توفر للنص قارئ ما، فعليه أن يلامس المعاني، المتعددة، وبطريقته الخاصة، فهو بذلك سوف يقرأ ذاته بذاتها، أكثر مما يقرأني بذاته، الأمر الذي سيتيح له المشاركة الفعلية في إعادة اكتشاف المعاني، وتشغيل ورشة إنتاج الدلالات، وتنشيط مخيلة التأويل، بحيث يكتسب النص حيويته.
( 5 )
المعنى، إذا كان ثمة معنى يسعى إليه القارئ، إنما يأتي فيما بعد. وهو معنى لا يعني الشاعر، إلا بقدر ما يمنح النص حياة جديدة في كل مرة. فالشاعر لا يكتب كي يقدّم الموعظة، إنما هو يتعلم فيما يكتب معيداً صياغة ذاته.
الكتابة هي الذات مستنفرة نحو العالم. والذين يتوقعون من النص علماً ومعرفة ومعنى مكتملاً إنما يفسدون على أنفسهم لذة محتملة: لذة النص فيما يُكتب والأفق فيما يُقرأ.
هؤلاء ربما يصدرون عن وهم أن الشاعر هو مصدر معرفة، في حين ينبغي أن يصدروا عن منبع حواس كامنة في ذاتهم. فلكل قارئ طاقة معرفية وخبرة وحلم يُفترض بها جميعاً أن تكون الموقد الذي تتوهج فيه الكتابة، ويتألق في لهيبه النص بوصفه جامع حواس.
( 6 )
ليس الشاعر، في الزمان والمكان العربيين، سوى روحاً شريدة وحيدة لا يرأف به أحد، ولا تصغي إليه سوى الأقاصي البعيدة. وكل روح شريدة ستكتشف أن الحكمة في ما يفعله الشاعر إنما هي في عدم الوثوق بأي شيء وعدم الخضوع له. فمخلوق مذعور بهذه الشاكلة ليس مرشحاً، أو مؤهلاً لأن يمنح المعرفة والحكمة لسواه.
( 7 )
الكتابة العربية تحتاج ذواتاً متواضعة لا تزعم ما لا تقدر عليه، سيما وأن التغيير الذي ينتظره العالم لن يأتي من الكتابة وحدها. فالكتابة في نهاية الأمر ليست أكثر من يد ممدودة في العتمة، مثل صلاة، كما عبر (فرانز كافكا ) ذات ليل.
|