نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

حزن طويل القامة

1

يقاسمني الخبز والماء والوسادة وينال الكوابس عني، يذرع الطريق معي، ويغمر أمامي الأفق. تضرعتُ به الأصدقاء، فلم يعجبهم أن حزناً بهذا الطول الفارع يتبادل أنخاب الليل معي. بعضهم نصحني بتناول أقراص النوم صباحاً لئلا يتفاقم الحزن ويغويني إلى التهلكة، بعضهم اجتهد في تشغيل أدوات الحب لديه لمعرفة حدود صوتي من حنجرتي في هذا الحزن. حزن طويل القامة مثل هذا، لا يمكن التخفّف منه عندما تخلع القميص والمعطف، وهو لا يذهب مع الماء. فارعٌ، فارعٌ كمن يطلع النخل وهو جالس في قرفصاء الحديقة. جاءني مع الوقت، مثل الارث في بقية ما يقضي من العائلة. شاحب، شحيح الكلام، يقصف الرقبة لفرط الشهق. الحزن الفارع هذا، قرين الروح منذ بهجة الطفولة، له قدرة على مدحي بمحبة السفّود الواري، يضعك في الجحيم لكي تبرأ، فيما يلهو بك مثل ذئبة تسأم طريدتها بعد أن أضحت في اليدين. حزن لا أكاد أعرف أينا ظل الآخر و أينا ضوؤه. هل هو هنا لأنني في غياب، أم أنني في حضور نيابة عن الوهم. وغالباً ما يسبب لي الحرجَ حين أقف لإختيار ملابسي، جميع الملابس لا تطال كتفيه وبالكاد تلامس ربلة ساقيه الهزيلتين. حزن مثل هذا ليس سهلاً التفاهم معه. ثمة من يعبرون الطريق الذي أقف على ناصيته، يلمحون عن كثب غيمة تقف هناك، يتراءى لهم أن الواقف ليس شخصاً أعرفه، أو هو ليس شخصاً بالتحديد، ربما ريشة كثيفة سقطت سهواً من سرب غربان يعبر الأفق، وطابَ لها أن تتماهي في أسمال خيال المآتة لكي تحرس الحقل لسربٍ آخر. أحد الأصدقاء لم يكن يصدق أن هذا الحزن هو الاسم الخفيّ الذي يتوارى كلما هممتُ بالكلام، ومن يسمع صوتي يتيقن أن عطباً أصابَ أوتار الصوت في حنجرة النشيد، فيتبرع أحدهم بقطعة من سكر النبات لكي تكون ديباجة الكلام. أحدهم صرخ بي ذات أمسية : مادمت مسكوناً إلى هذا الحد، لماذا تزعم الغناء في الساحة ؟.

2

أحياناً، أصدق أن للحزن سطوة على الصوت. فأداري شغفي المكبوت، وأنشغل بكلماتي عن السهرة، لئلا يراني (أو يسمعني) الناس وأنا في حالٍ من وجد المشغوفين بالتماهي مع الأشباح. أصدّق أن حزناً فادحاً مثل هذا كفيل بأن يفضح جسداً هشاً وروحاً شاردة مثلي. لذلك أذهب متوارياً عن الكائنات الفسفورية التي تحدق بي، أظن أنني وحدي، فإذا به هناك.. لي.

وحين أكون مدعواً لعرسٍ ما، سيكون أمامي فصل من مقاومة وحش أسطوري يضطرب تحت الجلد، سيكون هذا الحزن الفارع أطول قامة بين الحضور، سيغمرني بالكآبة في جمعٍ جاء لكي يعبر عن سعادته. كيف يمكن كبح رغبة الدمع في التفجّر في حضرة الصديق الذي يحتفل بعرسه. وعندما أبرّر تلك الدموع بفرح خاطف، سأكون كمن يبالغ بمشاعره في موقع لا يحتمل ذلك. كمن يحضر حفل توقيع اتفاقية صلح مدججاً بالأسلحة. إنه حزن يعوزه التهذيب ولا يمتثل لطقس الحفل. حزن يدفعني لإرتباكٍ يرعش يدي وهي ممسكة بكأس الأنخاب لكي تنسكب على ملابس المحتفلين. حاولتُ مرة أن أقف بعيداً عن الجموع لكي أدع قريني معزولاً عما يكدّر حزنه. وما إن تورطتُ في واجبات تقديم العزاء حتى انتعش القرين وبدا متوهجاً مهتاج المشاعر متورد الخدين مكتنز الأوداج كأنه ينال مني أمام الجموع. يقول : هذا هو محفل يتوجب عدم التخلف عنه. كان يستمهلني للبقاء أطول وقت ممكن في المأتم، حتى أوشكت ذات مرة أن أبدو من أقرباء المتوفي لفرط ضلوعي في العزاء، عندها راح أحدهم يقدم لي الشكر على مشاركتي مصابهم، كنت أكزّ على أسناني كمن يريد أن يقطع لحم القرين الفارع لما يفعله بي. لكن، من يقدر على اجتياز مفازات الروح وتخوم الكائن في مثل هذا الموقف.

3

و إذا كنت أحاول تفادي فضيحة هذا الحزن المتفاقم، إنما لكي أبدو أمام نفسي متوازناً قادراً على الاحتفاظ بأسرار الروح لنفسي.. لها وحدها. لا أحد يرغب في أن يكون حزنه مشاعاً إلى هذا الحد، لكنني لم أعد قادراً على تفادي الهزيمة. إنه حزن مهيمن، ولابد لي من أن أتعامل معه كشخص آخر، شخص قوي الشكيمة، غزير التجربة، جديرٌ باحترامٍ يخلعه المبتدأ على الخبر في جملة الناس.

قلت له ذات فرح نادر : كيف يحلو لك أن تنام في سريري وترتدي قميصي وتضع كلامك في كتابي، دون أن تتيح لي فسحة من حرية النوم في بهجة الحياة، ودون أن أبدو مزدوجاً؟ ثمة الحب الذي تحبه وثمة الحب الذي يحبك، أيهما يضع يده على قلبك، أيهما لك وأيهما عليك، قل لي؟! فلم يكترث بي. وضع يده في قلبي وأخرج فلذة وبسطها أمامي قائلاً، بسخرية من يَفْري لحمه النصلُ فيغتصب ابتسامة مبهمة لئلا يجهش بالبكاء : كيف تزعم برغبة الفرح وفي قلبك كل هذه الجراح، من أين لك أن تتقمّص ما ليس لك وما لم تعرف مذاقه وما هو مقسومٌ لغيرك ؟" كان فادحاً وهو يستدرجني في شارع الناس، حيث الأحزان فضيحة دائمة التألق، فكل من تشاغله شهوةُ النوم لن يخلو ليله من الكوابيس. حزنٌ حزينٌ مضرّجٌ بنفسه، يطوف الشوارع يجهرُ بالنشيد في الناس، ويبالغ حتى يغمر صوته الأزقة وتلوح قمصانه في الأعالي، بشارةً لكل من لم يفقد عزيزاً بعد، عليه أن يتهيأ لذلك، فهذا الحزن الكثيف منذ المهد لابد أنه يدخر المفاجآت فاتحاً الطريق نحو اللحد. ما من فسحة لفرح وحزن صارم مثل هذا يحدق بي في شارع الناس. حزن يستفرد بالروح ويهزم الجسد، مستبسلاً كأنه لا يجد في اللغة كلمة أقل رأفة من الحب، فيغمدها في الجرح القديم، ويفّرك بها الدم حتى ينزف زرقته كاملةً، دون أن يتاح لي برهة التشبث بهواءٍ ينفد نأمة نأمة. فهذا حزن لا يعرف النوم ولا تنقذه غفلة الليل.

4

حزن طويل القامة مثل هذا، لن يكفَّ عن تلقيني درسه كلما توغلتُ في أسراره الغامضة وهي تمنح المجدَ لصمتي. هذا الحزن الشاهق لم يعد قادراً على تفادي الشفير الذي نذهب إليه معاً صباحَ كل أحد، عندما نقرأ في الجريدة تهاني الأصدقاء لنا على كون أحدنا لم يمت بعد.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى