نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

سهرة القتلى

شُغفنا بكوكبة القتلى، لئلا تصابَ المشانقُ بتخمة القصل. قلنا، نسهر عند ظهر البيدر بعد نهارٍ مترعٍ بالجَنْي الجديد من الكرم. اقتربَ موسمُ العنب لندفق في مخلوقات المدينة شيطانَ الترنح بلا هوادة. قال الرجال : هذه ليلة مقمرة يحلو فيها نبيذُ السنة الماضية قبل نفاده، كفانا نوماً مبكراً. وعندما اكتملَ الجمعُ حفرنا أربعة آبار متباعدة في الساحة، وتدلّى الفتيةُ بالحبال نحو القاع يملأون الأواني الخزفية، وكلما رفعوا آنيةً مترعةً، تقافزتْ منها ضفادع مذعورةٌ تنطّ على أكتاف الرجال وهي ترشّ النبيذَ على الأجساد المعربدة، لتسري نوبةُ من الضحك الماجن بين الرجال، وما إن يقع ضفدعٌ في حضن امرأةٍ من اللواتي حرصنَ على مشاركة السهر، حتى تصرخ منتفضـة كمن مسّتها كهرباءُ الجنس، فيصعد ازدهار الصخب في الجمع. وبعد قليل وصلت إلينا رائحةُ الشواء الذي تكفّـلتْ به فتياتٌ نشيطات رحنَ يغنيّن وهنّ يحـمّـرن الدجاجات المحشوة بالبصل والثوم وخليط البهارات، ضربٌ من البهارات تخصصتْ (أم يحيى) في صناعتها منذ سنوات، فعمّت شهرتُها القرى النائية. وجاء الكثيرون يبحثون عن (أم يحيى) وتوليفتها البارعة. أحد الرجال تخابثَ ذات سهرةٍ وأشاعَ بأن هذه البهارات كفيلة بإشعال الحُبَّ في الأجساد، الأمر الذي دفع النساء لأن يبالغن دوماً في تبهير الطعام. وقيل إن إحداهن كانت تضع لزوجها قليلاً منه في شاي الصباح لمباركة النيران في الجسد. ربما كان هذا الخاطر هو الذي باغتنا عندما وصلتنا رائحة الشواء، فتبادلنا النظرات ذات المغزى، وانفجرنا معا في ضحك فاجر جعل النسوة من حولنا يقذفننا بكل ما طالته أيديهن، ثم تسللن بعيداً عن مكان صخبنا وشغلن أنفسهن بإعداد المائدة. وفيما كنا نوشك على الدفعة الأخيرة من النبيذ، طلعت علينا صبيّـة تعتلي ظهر مهر أبيض. وقفت على طرف التل لحظة، ثم لوّحت لنا لكي نقترب. لم نكن نعرف صبيّـةً بهذه الملامح في النواحي القريبة. شَعرٌ أشقر ميالٌ إلى الحمرة، ومن جيوب الصديري الصغير، الذي ترتديه على لحم جسدها الفتيّ، تتدلى أزهارٌ سوداء، فيما كان اللجام الذي تقود به مهرها الابيض عبارة عن منديل من الحرير يختلط بإزارها المعقود في خصر ناحل كان يتأوّد لفرط الانفعال المكتوم. قالت "هل من مكانٍ يسعُ تسعةً من الأصدقاء لليلةٍ واحدة ؟" لمسنا في لهجة الصبيّـة ثقةً جليّة في كوننا الجهة التي كانت تطلب، وأننا لن نخذلها. رغم ذلك فإن طبيعة عجائبية جعلتها تتميز بلباقةٍ حسدتها عليها نسوةُ القرية، اللواتي كنَّ يفتحنَ أحداقهن وأفواههن مأخوذاتٍ بالفارسة الصغيرة التي بدأت غزوها باكراً، ويبدو أنها لن تكفَّ عن ذلك. ها هي صبيـّة تحسن إدارة المشهد. أشارت بيدها للناحية الأخرى من التل "هناك تسعة من الأصدقاء تلاحقهم قوة من الجند، أربعة منهم جراحهم تنزف". وما إن إلتفتنا لنلقي نظرة سريعة، ونتـأهب للذهاب الى أولئـك الأصدقاء، حتى اختفتْ الصبيـّةُ برشاقة المهر، مثل فراشة تطير من زهرة إلى أخرى، دون أن تُحدِثَ ضجة. وتيقّـنا أن الأسطورة تتحكمُ في سهرتنا، إنها ليلة النبيذ بجدارة. توزعنا، قسمٌ ذهب لملاقاة الأصدقاء التسعة، وبعضنا تولى ترتيب مبيتهـم في مكان آمن لا يطاله الجند. لم يعرف أحدٌٌ منا لماذا ينبغي أن يكون هؤلاء التسعة أصدقاء لنا مثلما هم أصدقاء لتلك الصبيّـة. ومن أين لصبيّـة مثلها أن ترتبط بصداقةٍ مع تسعة يقودون إعصاراً. واتسعتْ أحضانُنا بالأصدقاء. عندما ردّد أحدنا كلمة (القتلى) أمام النسوة انتابهن شعور غامض، وسرعان مـا نهرنه لئلا يكرر هذا التعبير مرة أخرى "ليسوا كذلك، مثل هؤلاء ليسوا للقتل، ولا يطالهم الموت. أنظروا إلى هذه الجراح الناضحة بالزنبق، أجساٌد تأخذها غفوةُ النزيف، أليسوا ملائكة حقا؟" لم نـرَ وجـه ملاكٍ من قبل، لكن يبدو أن كلام النسوة يحتمل الصواب. على الأقل لاتصاله بالسر الخفيّ الذي يربط هؤلاء الأصدقاء بتلك الصبيّـة الغامضة التي تحاكي الملاك وتغيب في مثل خفتـه. قليلو الكلام، أبدوا لنا مشاعرَ امتنانهم بكلمات مختزلة عميقة ودافئة برغم اضطرابهم المكبوت. يستعملون لغةً غير معهودة، لغة تشابه الاشارات ومكنوزة بالمعنى، ثرية مثل ضوء قمر في ماء، وفي ليلة واحدة تعلَّمنا الأشياء التي ستسعفنا لسنوات طويلة. بغتة اقتحم الجنودُ السهرةَ لكي تكتملَ الأسطورة. عندما وصـل الجند كنا نهندسُ سهرتنا بصخب، ونتبادل أنخاب النبيذ بكؤوس تفرغ أو تكاد، ورحنا نؤجل الالتفات للمائدة حتى اكمل الجند استجواب القرية، الناس والأشياء. وعندما توجهوا إلى الجرن، صرختْ النساءُ : "العشاء" وكانت رائحة الدجاجات ذات البهار قد فعلتْ فعلَها في جوع الجنود. للمرة الأولى سرى بيننا اعترافٌ شاملٌ بالمفعول السحري لبهار (أم يحيى) ودوره الغامض في إنقاذ الأصدقاء التسعة، بعد أن غطيناهم بالمزيد من السنابل خلف بالات العلف الجاف. فمَـنْ يؤوي كوكبة من القتلى لابد لـه أن يتميزَ بكثير من الدعابة. وإلا فإن المظهر الجاد سوف يجعله عرضةً لشكوك الجند. جندٌ يعتبرون كلَّ شخصٍ تظهر عليه علاماتُ الصرامة عدواً لا يجوز تجاوزه. وهذا ما أدى بحوذي القرية ليلتها لأن يلاقي حتفه. فبعد أن شبع الجند بالدجاج المتبّـل، خارتْ قـواهم فطلبوا من الحوذي أن يخرج حصانه ويقطر عربتَهم لكي يوصلهم إلى معسكرهم خارج القرية. وبسبب حكمة الحوذي وصرامته، سألهم أن يدفعوا له أجرة نقلهم مسبقاً. وكانت حكمة لم يحالفها الوقت ولا المكان. حاولنا دون جدوى إقناعه بأن الموقف لا يستدعي مثل هذه الصرامة، فأقنعه أحد الجنود بطلقة في رأسه. طلقة أشعلتْ رؤوسنا جميعاً. وفيما كان يتعفّر بدمـه في طين السهرة مثل النبيذ في الجسد، كان الجندُ يبتعدون ويموجون في صخبهم حتى تكاد العربة تنخلع لفرط فوضاهم. كان أحد الأصدقاء التسعة قد أعد العدة لتصفية العربة بمن فيها، لكن عملا ً مثل هذا كان كفيلاً بأن يجعل المعسكر برمّته يستنفر ويبعث بكل أسلحته لمحاصرة القرية ومعاقبتها على إيواء هذه الكائنات. بعد تلك السهرة لم يعد النبيذ يروق ولا يطيب السهر. وما عادت (أم يحيي) تحسن توليفة البهار الذي يشعل الأجساد. وظلّت الصبيـّة الجميلة بمهرها الأبيض تطلع علينا بين وقت وآخر، تحكي لنا قصصاً عن أصدقاء كثيرين لم يعد أحد يؤويهم. تـارة يكونون جرحى،
وغالباً قتلى،
ونحن نحصيهم كل صباحٍ .. ونذهب. *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى