نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

يداه ليستا له

يداه ليستا له.
يبني بهما الأشكال. يدفق الماءَ في جذورٍ مفتوحة على طين الناس. يمسحُ بهما الأخطاء، يداعبُ بهما رأسَ طفل، ويرعى بهما نساء يعبرن الطريق، يطلقهما في الفضاء فتصير لهما أجنحة وتطيران. أحياناً تبدوان كما لو كانتا غير موصولتين به. يفعل بهما أشياء لا تحصى ولا تُنسى.

طريتان، مشحونتان بسحره وغموض مشاغله، حتى أنه تمكنَ في إحدى المرات أن يفتح خزانة الفرّان و يفرغها من الخبز الساخن قبل أن يحترق، فيما كانت الأحداق تتوهج جوعاً. أحياناً يحلو له أن يؤرجحهما لتصيران أجراساً تكنس غفلة الناس، أومنارات تفزع كائنات ليل البحر، أو رسائل تذهب لمخلوقات تنتظر مجهولاً منذ الأزل. أحياناً يطيب له أن يخبئهمافي جيبه عن برد الأرصفة، حيث المعطف الدافئ الحنون، وما إن يخرجهما حتى تكونان مترعتان بالهدايا، وفي النوم يغسل بهما كوكباً عابراً، ويرسم بهما غيماً رهيفاً تتقمصه الملائكةُ وتسيّج به الجنياتُ أسرتها وتزين أحلاماً تكاد أن تكتمل.

وما إن يجلس لكي يكتبَ، حتى يشعر بخسارةٍ فادحة، لأنه لن يستخدم سوى يداً واحدة، ليترك الأخرى مثل شيئ غائب، شيئ ملقىً بجانب الدفتر يوشك على النوم، ربما جعلها تقوم بمهمات هامشية، كأن تسند رأسه أو تساعد في إشعال التبغ، أو تهتم بما ينثال من الحبر على شرشف الورق، أوتهدهد سرباً من نحل الأفكار ضاقت به المخيلة فخرج يبحث عن رصيف أزهارٍ هاربة. أشياء من هذا القبيل، لئلا تصير اليد الأخرى هَمَلاً وعرضة للنسيان. بينما اليد اليمنى تنتفض كجناح عصفور، فرحةً بالمهمة التي تميزها عن شقيقتها، فالكتابة تاجُ الملكات لا تناله يـدٌ أخرى، والورق الأبيض أفق السفر الذي بلا تخوم، ليلٌ أبيض وارف، لنيازكه أهدابٌ تركضُ كالفرس الجامحة. وهو يتأمل غزالة نافرة بإنبهار مألوف، يثق بأنه وريث هذه الطبيعة الحرة، يدٌ لها حرية أن تملك الخلقَ، الهدم والتكوين، الرسم والتلوين. سرعان ما تعلن تمردها واستقلاليتها بأكثر الأشكال عنفاً وغرابة. وهو يتماهى، ينتبه ويغفل، له يدٌ وحيدة القلب يطيب لها أن تنسى نفسها وهي تعانق القلم، تتوغل في البياض بأباحية مهيبة.

يمينه في الكتابة، وهومتكئ على اليسرى يرقب، كأنها ليست له، ويحْدُثُ أن تعتريه الدهشة لبسالة هذه اليد التي تحمل بمفردها راية الهجوم وتحسن الفرّ والكرّ. ويحدث أن يشاغبها، فيطوح بالقلم جانباً، يبسطها أمامه على الطاولة. يتأملها، فتبدو مرهقة خائرة وتكابر، كأن الذي يحدث هو نوع من التغنّج.

يهجس : العرق سينضح منها بعد لحظة.
يراها تتلفت، كما لو أنها تبحث عن شيء، عن القلم تحديداً. كم تبدو مخذولة ويائسة عندما تصبح عاطلة عن العمل، عندما تجرّد من سلاحها الوحيد الذي يمثل تفردها وشخصيتها المختلفة، كأنه الوهج الذي يصقل تاجاً لا يراه سوى العاطلين عن الموهبة. بدونه تبدو أشبه بمحاربٍ أعزل يتوجب عليه أن ينازل وحشاً مدججاً بشتى الأسلحة. بدونه تصبح بلا نفعٍ ولا قيمة، وبلا مزايا، بلا روح ولا ذاكرة، مثل ملكة معزولة. هكذا يحلو له أن يشاكسها، دون أن يشفقَ عليها أو يرأف بإنكسارها وعزلتها. أحياناً يمعن في التنكيل بها، حيث يتناول القلم باليد الأخرى، اليسرى. يعتدلُ في جلسته ويُدني الورقَ منها. يضع رأس القلم على أول السطر في قمة الصفحة، ويدفع يده في طيش المحاولة. لم لا !، ينبغي أن تتعلم كيف تسوق الحروف سرباً سرباً، أن تحاكي مهارة الحروف في الانحناء والالتفاف والدوران، أن تتقن إيقاعاتها، وتتقمّص روح الكتابة. كل ذلك لكي تكون جديرة بمضاهاة اليد اليمنى، فهذا طموح يغري بالمغامرة. بفضول يراقب دهشة هذه اليد وهي تجابه المهمة الغريبة، بالتحدي الأكبر، بالمنازلة التي يتعيّن عليها خوضها دون وجل، ودون أخطاء أيضاً.

شَرَكٌ أم حُظوة ؟
يلقي نظرة على اليد اليمنى. كم هي في ذهول حد الامتقاع، تجفل تارة، تقهقه بإرتباك وتوتر تارة أخرى، لكن الشحوب يفضح طبيعة التجربة الجديدة. لم تعد محاولة استنطاق اليسرى وبعث الروح فيها مجرد لعبة أو لهو مجاني. صارت هوساً، تحدياً، صراعاً، أو هي مبارزة غير متكافئة. فيدفق فيها طاقة الروح الجامحة، هذه هي التجربة. ليست المسألة مستحيلة. فقط حاولي. حاولي حمل السلاحَ واستخدامه، وإلا ستظلين مطروحةً في الخذلان والعجز. وعند الكتابة تظل تلك اليد فارسةً وحيدةً وبلا منافس.
لكن كيف، في البدء كانت مثلك، لم تكن تجيد ذلك. تدربتْ، جعلتها هندسةُ الميثولوجيا مرشحةً لأن تكون أولاً. الآن ينبغي أن تدخلي التجربة، فقط اسحبي القلمَ حتى آخر حرف في الكلمة، وسوف يتكفّل الحلمُ بالباقي.
كأن يديه ليستا له، يفعل بهما الأشياء، يحرّضهما على الاقتحام، ويظل يدرّب اليد الأخرى. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه لم يستسلم، يدٌ أدمنتْ الكسل، تحولتْ مع الوقت إلى الاقتناع بعدم القدرة على الكتابة لفرط الهزائم، وظلَ هذا الفعل مقصوراً على اليد اليمنى، يقدّمها ويمنحها الامتيازات حتى صارتْ في الغرور والتعالي : أنتِ لا تكتبين، أنا فقط الذي أكتب. هذا العمل لا تقدر عليه يـدٌ أخرى، اليد الثانية، يكفيك العناية بلفافة التبغ وفنجان القهوة، لا شيء غير ذلك. فعندما يحين وقتُ الكتابة أنتِ عبدة لي.

وكان يرقب هذا التناحرَ العذب بعذاب، ولم يتنازل. صار يرشّح اليد اليسرى للقلم في بداية كل مرة يُقبِلُ على الكتابة. يعطيها القلمَ ويدفعُ بها أمامه في الورق. تجرجر نفسها كالساق المفلوجة، مسحوبةً في مستنقع الوحل. تشرّش بضع كلمات، ترتجفُ هيبةً، وينتابها التعب. يرْشَحُ العرقُ ويسري في أطرافها قطعان النمل البارد المتناهي في الصغر، فيرتجل الراحة لها ويعطي القلم لليد الأخرى، اليمنى، التي تكون لحظتها قد أوشكتْ على الانفجار غضباً لفرط انتظارها، وما إن تلامس نعومة القلم وتضغطه في مثلث أصابعها، لتسري في مسامها رائحة الحبر، حتى تهتاج بالكتابة محمومةً مثل الجنس. هكذا في كل مرة، كان يتأجج في كيانه اصرار غامض على تحرير اليد اليسرى من عبوديتها. ويهيئ اليمنى لكي تعتني باللفافة وفنجان القهوة ويحمّس اليسرى للكتابة، وهكذا بالتساوي.
اليد اليسرى أيضاً تستطيع أن تكتب.
ويبدو كما لو أن يديه ليستا موصولتين به.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى