نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

في وداع "العُبِدْ"

(إلى الفنان خالد الهاشمي
في الحِل و الترحال)

والعُبِدْ هذا (بضم العين وكسر الباء) سوف يتركنا ويغادر مع، مختبراً مقدارَ محبتنا له، محبة نؤكدها له كل صباح. علينا أن نحسنَ وداعه الآن، لئلا نبدو أقلَ وفاءً مما يظن. ونعزّي النفسَ أن ذهابه مؤقتٌ مهما طال، وغيابنا زائلٌ مهما حضر. لا نعرف مَنْ مِنا يغادر الآخر. لولا أن المسافة بين خالد المسافر والعُبِدْ المقيم تدفعنا للثقة في أحلام غاليليو الملحد.
والعُبِدْ هذا (بضم القلب وكسر الجناحين) هي الشخصية التي صادفها لنا خالد الهاشمي ذات مخيلة، وأطلقها تنساب وتتماهى في لوحاته اليومية، منتهزاً غفلتنا عن الماضي، ليصدمنا بمستقبلٍ لا يقل عتمة عن الحاضر. سنفتقده (بعويناته الصغيرة السوداء، وهو يعضّ على طرف سيجارته، بلامبالاة الطاعن في الفكر، ودهشة الذاهل في مواجهة المشهد) فقداً نكادُ نشفقُ به على صفحةٍ ستظل مكللةً ببياضٍ لا يرحم. ونقول : غير محسودة جريدةٌ يغادرها خالد الهاشمي ومخلوقاته.

ها نحن في وداعه الآن ذاهباً للدرس في الأصقاع النائية، فبعيداً أكثر ربما يرانا عن كثبٍ أقل. مخلفاً زجاجة قنديله الأسود تضيئ، بما تبقى من الزيت، نهاراتنا التي لا تكفيها شمسٌ واحدة.
و العُبِدْ هذا (بضم الكاف وتسكين النون) كان له أن يصوغ موهبة القارئ لمطالعة الجريدة من صفحتها الأخيرة، في تقليدٍ صباحيّ، كموظفٍ يانعٍ، يضع قطعة السكر في قهوة الحليب ويطوي أكمامَ قميصَه المجَعلك، ويزعم، في كسله الأخضر، أنه أدى واجبه اليومي مخلصاً، لئلا يقال إنه لم يذهب إلى العمل باكراً، وإذا عاتبه أحدٌ رفعَ صفحته الأخيرة معلناً أن خالد الهاشمي قد قامَ بالواجب كاملاً وعلى أحسن ما يكون، ولا لوم على أحدٍ إذا أحدٌ لم يفهم وأحدٌ لم يقل الكلمة الباقية في الجملة المفيدة التي بدأها العُبِدْ.
و العُبِدْ هذا (بضم الأبيض وكسر الأسود) لا يشغله الشغلُ عن مشاغل الناس. يضعُ يده في طحين الخبز تارةً، ويغمسها في زيت التروس تارةً أخرى، ملطخاً ثوبه بأوسمة العمل، وفاقداً أصابعه في حديد الآلة الجهنمية. يقالُ له إن كل شيئ على ما يرام فلا يصدق، يقال له إن كل شيئ ليس على مايرام فلا يصدق، فيحارُ معه خالد، ويدفعنا في متاهة الكشف، لا نكاد نميّز الصدقَ لفرط الكذب الغامر المهيمن.
والعُبِدْ هذا (بضم الجسد وكسر الروح) يطلع علينا كل صباح مزهواً (بنسفة غترته) البالية المهملة، وثوبه الذي يزداد رقعاً ومجداً ومكابرة كل يوم، لكأنه لا يرى في الناس إلا جواهرها، لا تغرُّّه الكشخةَ ولا تهمُّه النفخة. يمعن في تهشيم أوهامنا التي نتجرّعها ليلاً ونهاراً. قليلُ الكلام، كثيفُ الصمت، يكترثُ بالحرب ولا يأمن للسلام. كمَنْ يقول "يا دنيا غرّي غيري".

والعُبِدْ هذا (بضم السَفر وكسر الاقامة) سيذهب إلى درسٍ آخر، ليتركَ لنا شعورَ الوحشة في مستطيل البياض اليومي، حليباً لا قهوةَ فيه ولا قطعة السكر له. وعلينا أن نحتمل مرارةَ وداعهِ بإحتفالٍ يمتزج فيه حزنُ المودِعين بشجن المسافر.

فيا خالد الهاشمي الذي تغادرنا اليوم، هلاّ قلتَ لنا ماذا نفعل غداً صباحاً، وأين نجدُ العُبِدْ هذا (بإحتضانة الصديق ضَمّـاً وإنحنائة الحاني كسراً) لنتبادل معه كلمةَ الرأس، ونبذل له النفيسَ والنفس، رَجاةَ ألاّ يقبل ما سيخلعون عليه من الديباج والحرير في غيابك ؟
فالعَبْد هذا (بفتح العين وتسكين الباء)، مثل عبيد الله جميعاً، سيكون مستفرداً بما لا يقاس في مشاريع الرشوة وإغراء المكان والمكانة، ليخلع نظارته السوداء فلا يرى ما يراه، ويستبدل ثوبه (الذي مثل بيرق الأزل) ويلبس ما يخلعون عليه من الحلِّ والحلل. فالعُبِدْ هذا سيكون (في غيابك) عرضةً للغيبوبة. هذا العُبِدْ الذي بلا سيدٍ، ولا تنطلي عليه الألوان، لا يثق بغير الأسود والأبيض (كلاهما ليس سهلاً كما إتفقنا ذاتَ يوم)، ويقودنا إلى النيران لتكون زينة سهرتنا الباردة.
يا خالد الهاشمي، صديقنا في الصفراء والحمراء، لوناكَ غرَّرا بنا وأخذانا الى التهلكة. ولكَ أن تسافرَ مطمئن البال قريرَ العين، ثقةً بأننا نحتفظ لكَ بنسيانٍ فادح، يتذكر جهدك الجميل الدؤوب، الذي ظل يختزلنا ويختزلُ لنا القلبَ والعقل، في نافذةٍ صغيرة تطل بنا على الأقاصي الموغلة في اللحم والعظم، مسكوتٌ عنها ولا تباح ولا نفصح، نافذة تفضح بنأمة نادرة ما يحاول الكلام الرائج حجبه. جهدك الجميل الذي (والحق نقول) لم ينل حقه في ظهرانينا حتى الآن، فزفيرك الذي تلوبُ به لا تسعه الرئة التي تلوذُ بها، دونَ أن يقلل هذا من أهمية شغلك وجماليته وجدواه.
يا خالد الهاشمي، إن المسافة التي تقترحها علينا بسفرك، لن تحجب حضوراً باهراً أسّستََ به تجربةً نوعيةً في حقلك، تجيز لنا الشعور بفخر صداقة تغري بالمغامرة ومبارزة الشياطين من كل لون.
فالعُبِدْ هذا (بضم كل شيئ على كل شيئ) سيظل أمانة أعناقنا الناحلة، لعلنا نصونه من سوء طالعه المحدق، ونشفق على أنفسنا به، وفاءً لمن اقترحه علينا، مثلما يقترح الليلُ شمساً على نهارٍ كئيبٍ وزاخرٍ بالكوابيس، وعداً لك أننا سنمسك على يأسنا بالنواجز، على أن لا تغفل عنا ولا تسه ولا يصيبك الأمل.

إذهبْ إلى الدرس، وإطمئن، سنكون في إنتظارك،
فقد بدأت الوحشة.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى