نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

النقد بوصفه إبداعاً مضاعفاً

1

النقد فعلُ إبداعٍ مضاعف. وكلمة "إبداع" هنا هي إتصالٌ بالبعد الشعري في الشاغل الأدبي. فما من إبداع (في أي حقل من حقول النشاط الانساني) إلا وينطوي على عمق شعري، وهو بالضرورة صادر عن شغل المخيلة.

النقد نزوع نحو تجاوز العقلاني لمحاورة القلب في الكائن. فالنظرة العقلانية للنقد الأدبي التي إتصلنا بها مبكراً، والمتمثلة في إعتباره: حكم الذوق (المفكر) في نتاج الحساسية (المنفعلة)، هي نظرة أوشكت أن تفسد قسماً كبيراً من التجارب الأدبية العربية المعاصرة، والجديدة خصوصاً. وربما أدتْ هذه النظرة إلى زرع تخوم وهمية بين العمل الأدبي والتأمل النقدي، كرّستْ الفجوة المحتملة بين القارئ والنص. أقول (كرّّستْ) لكي أشيرإلى مسافةٍ متحققةٍ بينهما، لأسباب معرفية وفنية خارجة عن إرادة المبدع وإدراك القارئ معاً. وهي فجوة لا نزعم أن النقد الأدبي مسؤول عنها، ولا نتوهم أصلاً أنها سهلة التخطي في واقع اجتماعي وحضاري كالذي يرزح تحته المجتمع العربي، فتلك حكاية تتصل بحقول بحثٍ ومعالجات يتوجب مناقشتها في غير مجال.

ما نذهب إليه إذن، هو ذلك البعد الشعري الذي ظل نقدُنا الأدبي يفرّط فيه ويتردد في التعامل مع جمالياته. حين يجلس الناقد عندنا في موقع النظر النقدي، فإنه يتنازل عن واحدة من أهم ملكاته الانسانية: هي المخيلة المبدعة. والكتابة ضربٌ من تجليات المخيلة، ما إن يغفلها المرء، حتى يقع ضحية طبائع كثيرة، ليس من بينها طبيعة المبدع وحساسيته. أحياناً يبدو متقمصاً دور المفكر الفيلسوف، أو المربي الواعظ، أو الطبيب البارد العواطف، أو القاضي مطلق الأحكام، أو رجل البوليس كابح اللعب واللهو. ترى ماهي المتعة الفنية والمعرفية التي يحصل عليها ناقدٌ عندما يستسلم لإحدى تلك التقمصات؟ أليس هذا تفريط فادح بالمخيلة الشعرية، خصوصاً وأن الأمر يتصل بالكتابة؟

ترى هل خضع البعض لوهم تلك الدعابة التي وَصَفَتْ الناقد بأنه أديب فاشل، ثم باتَ يصدر عن فعل تعويضٍ إنتقاميّ حَرَمَه من ممارسة مواهبه بحرية ؟!

2

النقدُ إبداعٌ مضاعف، بمعنى أن الحوارالنقدي المشحوذ بالمخيلة هو الذي يحقق مناخاً حميماً مع النص، ويمنح العمل النقدي حيوية وجمالا،ً لا يتوفران في السلوك القضائي الذي يتورّط فيه بعضُ النقد السائد. يحاور الناقد النصَ الأدبي بإعتباره اجتهاداً إبداعياً يقترحه الكاتب على الآخر، لكي ينشأ حبُ إكتشاف كُـنْهَ هذا الاجتهاد المقترح وعناصر جمال الجدة فيه، وهي معاملة مغايرة لرغبة محاكمة النص وتشغيل البحث والتمحيص الذهنيين بأدواتهما الجافة. وعندما يصدر الناقدُ، بوصفه موهبة، عن حقيقة كونه مبدعاً (أعني الذي ينبغي أن يكون مبدعاً) فإنه سيحاور مبدعاً آخر في النص، وربما ساعد هذا على تجاوز العديد من الأوهام المتصلة بما يشاع عادة عن قصور النقد الأدبي في إكتشاف عناصر التجربة الأدبية الجديدة وتفهّم مقوماتها المغايرة من هنا تتكشّف إمكانية أن يصبح النقد فعلَ إبداعٍ مضاعف، عندما يضاهي المبدعُ الأصلي في طاقة الحوارالشعري مع معطيات النص ونزوعات المخيلة فيه. عندئذ نصل إلى فهم التحولات الأسلوبية التي ينزع إليها عددٌ من الممارسات النقدية العربية في السنوات الأخيرة، حيث ينزاح القولُ النقدي، دلالياً، إلى إستخدام لغة أدبية مشحونة بالشعر ومكتنزة بالصور، مما يظهره كما لو أنه حوارٌ في العمق مع النص الذي يقرأه الناقد، محققاً نوعاً من إعادة الخلق والتركيب، أي إعادة كتابة. وسوف تنطوي هذه التجارب النقدية على مغامرة تعبيرية تشي بطموح إبداعي مكبوت، يخفق الناقد في تفادي تفجّراته، أذا ما اعتبرنا هذه التجارب إجتهاداً رؤيوياً في مقابل الاجتهاد الابداعي الذي يطرحه علينا النص الأدبي.

3

لكن، لماذا برزت مثل هذه النزوعات الجديدة في القول النقدي العربي ؟
هل هو تعبيرٌ عن سأم الاجترار الأزلي لرغبة التفسير والشرح المدرسيّين للنص، من خلال إتجاهات ومدارس نقدية عديدة. (إجتماعية، إنطباعية، نفسية، أيديولوجية..)؟
هل هو الشعور (المسكوت عنه) بلا جدوى التقميش الذهني على نص يصدر عن العاطفة ويذهب إليها ؟
هل هي تداعيات غير معلنة لإنهيارات بنيوية في هيكل الفكر والأديولوجيا الشامل، مما يفضح خطلَ التعامل السياسي المباشر مع الابداع الفني والأدبي ؟
أم هو الأفق الثالث الذي تتلفّت إليه التجربة النقدية العربية، بعد أفقين مريرين أدْيا إلى ما يشبه المأزق :
الأفق الأول/ عندما ظلت التجربة النقدية، سنوات طويلة،تكتب بحوثاً عن النص متوجهة لتفسيره (بواقعية آلية) للقارئ، معنيةً بالمضامين (بشتى تجلياتها) ومنصرفةً عن الشرط الفني لطريقة القول الأدبي، مما أدى إلى تغليب الجانب الأيديولوجي كمضمون وموعظة فكرية، وتغيّيب المنجز الفني، إلى جانب تكريس الفصل التعسفي بين الشكل والمضمون، تلك الثنائية التي أوشكتْ أن تفسد متعة الأطراف الثلاثة : المبدع / النص / القارئ. محوّلةً الأديبَ، في هذا السياق، إلى مواجهة بين إثنين : ناقل أفكار و مبدع أشكال... لا يلتقيان.

الأفق الثاني / عندما اتصلتْ تلك التجربة في السنوات الأخيرة بالاجتهادات والنظريات البنيوية، وصارتْ المحاولات النقدية تتلقّفُ تلك النظريات كمنقذٍ من ضَلالٍ لم يتمْ بعد كشف خلل تكوينه. وانخرطتْ معظم هذه المحاولات في دورة إنعطافٍ كاملٍ عن الممارسة السابقة بنسبة 90 درجة، فبعد أن كان الاحتفاء بالمضمون على حساب الشكل الفني، رأينا إنسياقاً عارماً يستغرقُ البحثَ والتحليل المختبريّين، لتفكيك وتركيب وإحصاء مكونات وعناصر النص، بإعتباره شكلَ قولٍ يتوجب تشريحه، مثل جثة في المشرحة، لسبر أسراره. وعلى أهمية مثل هذه الاجتهادات معرفياً، إلا أن ممارستها عربياً في صورة رَدِ فعلٍ مكبوتٍ، هرباً من المضمون الخالص إلى الشكل الخالص، يَشي بخضوع ضمني ومستمر للثنائية السابقة الذكر : شكل / مضمون ، وبالتالي وضع القارئ في مأزق إضافي. فالمبالغة في التعامل مع النص كفعالية شكلانية تبريره بإحصائيات ورسومات هندسية وبيانية جامدة المظهر، أدتْ بنا إلى التضحية بدم النص الأدبي ولحمه ومائه الغزير، حتى أصبحنا نصادف دراسات نقدية (لا تخلو من جهد) تبتعدُ عن الروح الانساني للعمل الأدبي وعن حركة الحياة فيه، وتتوجه بالخطاب لجهة، لا نستطيع التأكد حقاً مما إذا كانت هذه الجهة هي القارئ أم الكاتب أم أفراد المحفل النقدي أنفسهم، وبذلك وجدنا أنفسنا أمام مشهد ينطوي على مفارقة، فبعد أن كان النقد الأدبي يغفل العنصر الفني أو يقلل من دوره، ويتوجه للقارئ بحجة الشرح والتفسير، مما أدى إلى عدم استفادة الأدباء، كمبدعين من معظم الفعاليات النقدية المفرطة في الانشائية والنزوع التأويلي، رأينا فيما بعد، وبواسطة أدوات التحليل البنيوي، إنصرافاً كاملاً عن القارئ، عبر طرح نصوص نقدية، لا نعرف مدى قدرة معظم الأدباء أنفسهم على مقاربتها، بسبب المبالغة في ذهنيتها وجفاف لغتها وعلميتها المختبرية المتخصصة.

4

هل هو إذن الأفق الثالث الذي تذهب إليه اجتهاداتٌ من التجربة النقدية، في محاولة لإكتشاف معادلة تحسن مخاطبة النص والمبدع والقارئ في آن ؟
هل نحن أمام رغبة في إعادة النظر في مهمات النقد الأدبي ودوره في النشاط الانساني، إنسجاماً مع الرغبة في إعادة النظر في غائية الأدب ذاته، تلك الغائية التي باتتْ (ضمن التطور الهائل لوسائل التعبير والاتصال) تحوِّلُ الكتابةَ الأدبية إلى وظيفة بائسة ومبتذلة؟

هل يكمن الخلل في كون النقد ظل يتعامل بالعقل والمنطق مع نشاط، من الخيال الانساني، لايخضع للعقل ولا يستقيم مع المنطق؟
هل يطرح النقدُ الأدبي على نفسه سؤالاً يتصل بجدوى شرح النص وتفسيره، أو جدوى تشريح النص وتبريره وإعادته إلى مادته الأولية لغةً وبنيةً ودلالات.؟
هل كل هذه الأسباب والهواجس مجتمعةً جديرة بتأملٍ شاملٍ يشترك فيه أطراف العملية الابداعية معاً ؟

ربما كان الأمر كذلك، وربما أضفنا إلى ذلك أيضاً مناخ التحولات التعبيرية الذي يعيشه راهنُ التجربة الأدبية العربية، وأعني بها تلك الاجتهادات المتصلة بما يشبه تداخل التخوم الفنية والأشكال وفتحها أمام القول الأدبي، مما أدى بمحاولات مختلفة ومتفرقة هنا وهناك إلى طرح تجارب تمتزج فيها مختلف أشكال التعبير في نص واحد. وهذه التجارب بدورها قد تشير إلى إمكانيات محتملة، في تحول النقد الأدبي هو الآخر إلى نصٍ ينهضُ بلغة الشعر الصادرة عن تجربة ذاتية، يحاورُ النصَ الأصلي ويضاهي طموحه التعبيري، دون أن يتخلى عن دوره كفعالية نقدية.

كل هذه النزوعات، ربما اتصلتْ، بدرجة أو بأخرى، بإحدى الأسباب التي أشرنا إليها (وربما غيرها)، دون أن نسهو عن الوعي الذاتي الذي يتفجّر في تجربة الناقد العربي ويجعله في مركز المهبّّ دوماً، عندما يتعلق الأمر بمسألة الكتابة بإعتبارها طريقة حياة، في عالم يتغير كل لحظة مثل حركة الهواء في القلب.

5

أطرح هذه الهواجس / الأسئلة، لأنني أشعربرغبة عميقة في تأمل الأفق الذي نذهب إليه جميعاً كتّاباً و نقاداً. وبجانب ذلك أعتقد بأهمية إختبار إستعدادنا، للتعاطي مع شتى الاجتهادات النقدية، مهما تباينتْ وجهات نظرنا حولها، ففي هذا أيضاً إلتفاتٌ نحو الاستعداد نفسه إزاء شتى الاجتهادات التعبيرية في حدود الابداع الأدبي عموماً. فمن المحتمل أن نتيح لأنفسنا متعة الكتابة والقراءة بحرية ورحابة ديمقراطيتين. فمثلما في الأدب ضروبٌ مختلفة من أساليب التعبير، لماذا لا نتوقع أن يكون في الفعل النقدي (وهو تعبير أدبي أيضاً) تجارب متعددة، متمايزة، قابلة للتبلور في مناخ من الاجتهادات الخِلافيّة لا يلغي بعضُها البعضَ الآخر، لكن يحاوره، يسائله، ويعتقد به قريناً جديراً للذهاب نحو الأفق الثالث.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى