نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

الوعول

1

مثلما ظلت المنظومات السياسية، طوال تاريخها المعاصرتحاصر المجتمع في حظيرة الماضي، وتحاول تثبيته وتكراره، حتى تعرضتْ (لفرط السكون) للفساد والتفسخ، انشغلتْ المنظومات الثقافية التقليدية بمقاومة شتى محاولات التجديد في أشكال التعبير الأدبي والفني، وراحت تبتكر الوسائل لحقن التجارب اللاحقة بكل أنواع العقاقير لتحصينها ضد التجديد والمغايرة. ورغم فشلها الفادح في هذا المجال، إلا أن هذا لم يمنع الأدب العربي في معظمه من التخبط في وهم الاجترار والتلفيق وتقليد الجثث. ومن يتأمل المشهد الأدبي العربي في لحظته الراهنة، يستطيع أن يرى أعمدة الهيكل القديم (برغم تظاهرها بالتجاسر والمكابرة) وهي تتداعى وتترنح تحت وطأة الفوضى الجميلة التي تبعثها الروحُ الجديدة من التجارب الأدبية الموغلة في التنوع والمأخوذة بالحرية. فعلى هذا التراث التقليدي المستقر والثابت تخرج كوكبة من الوعول، تتفجر الدماء تحت أظلافها وهي تضرب أحجارَ الطرقات وأطراف الجبال. أكثر من جيل من التجارب يخرج من الرحم الذي يهشمه مخاض وحشيّ طويل، حتى تكاد الولادة تبدو فتّاكة. مخلوقات فاتنة مفتونة تقتحم المشهد من كل صوب، ليست مكتملة، ولا تزعم ذلك، ولا يخالجها غير جنون الحرية لفرط الحبسة. فقد طالَ مكوثها في القيد واستطالتْ بها الوَهْدة، حتى أوشكتْ على نسيان طبيعة الحركة والانطلاق ورحابة السهوب، لولا أن جذوة من يأسٍ ضارب في الأعماق (لايسطو عليه وهم التقليد وأقانيمه)، ربما تنقذها الآن من الهاوية الذهبية. كيف يكون أدباً، ذاك الذي لا يرى في الكتابة إلا ضرباً من محاكاة الأسلاف وتقديسهم. أؤلئك الأسلاف الذين كان لهم فضل الذهاب مبكراً (ليس أقل، ليس أكثر). لكن ثمة من يعتقد أن أسلافنا لا يزالون جديرين بالحكم والتحكم في طريقة حياتنا.. نحن الأحياء. نسي هؤلاء أن الكتابة مثل الحياة.. لا تتوقف. الآن، صار للتجارب الجديدة أن تتميز بموهبة عدم الاكتراث بمن يضع أمامها ميزان الماضي لتلفيق الحاضر ومحو المستقبل أو تشويهه. لم يعد في الهيكل ما يغري بالوقفة الأخيرة، إلا إذا كان ثمة أمل في إنعاش النعش. وليس أمام التجارب الجديدة (الباحثة عن أفقها) إلا أن تذهب في تجربتها إلى حدّها الأقصى، بموهبة، بمعرفة، وبلا أمل. وربما كان عليها أن تمنح إنهيار الهيكل فسحةً إضافية لإنهيارٍ جوهري ومهيب. وسوف تجد في من يتشبث بآثار الهيكل المتداعي ورموزه صورةً لإعتذار الماضي أمام المستقبل. في الفن والأدب من يجرؤ أن يدافع عن قوانين الماضي (... و هو يمضي). لمجابهة حرية المستقبل (... وهو يأتي)؟ من يجرؤ على هذا، غير الذين يصدرون من الاحساس المكبوت بإنتمائهم للماضي أكثر من علاقتهم بالمستقبل (وإن كانوا يظهرون العكس ويزعمونه). صار للوعول (التي طالتْ حبستُها) أن ترى في منح الهيكل القديم حرية إنهياره موهبةً (ورحابةَ صدر) ضرورية لازمة، لئلا يقال إننا لا نكترث بحرية الماضي.. في الذهاب. وليكن في الوعول إشارة واضحة لتجربة تعرف جيداً ما ترفضه، فيما تذهب إلى ما تجهله. فالابداع (في جانب من عناصر تكوينه) توغلٌ في غموض ما لا يُعرف. فالمعروف هو ما تم اكتشافه وصار ناجزاً ومستقراً. وربما كان في سديم النهايات وغموض البدايات عنصر غريب لا يقبله سدنة التقليد، رجاةَ أن لا يقبلوه أبداً.

2

إن القول بأن جيل الوعول هذا يعيش اليأسَ العام، هو نوع من الهروب، هروبٌ عن حقيقة فاجعة لايريد الجيل السابق أن يعترف بها، حقيقة أن كل شيئ يصدر عن الماضي (كقانون للحاضر والمستقبل) هو باطلٌ وقبضُ الريح. فثمة هواء فاسد يسدُّ المنافذ من كل حدب وصوب. فالذي لا يرى في الجديد غير عدوّ ماثل ويتوجب نفيه واستعداء العواصف عليه، سيمدح موهبة الكلام مع الأوثان الحجرية، وسيكون كمن يريد أجوبة على أسئلة لم يجرؤ على طرحها. هذا الجيل ليس يائساً. بدليل أنه يتشبث بشهوة الكتابة، فالكتابة فعل نقيض لليأس. الكتابة نوع من مقاومة اليأس. هو جيل مشحون بأمل لا علاقة له بالأمل الشائع الذي يروّجون له، أملٌ هو يأسٌ منهم ومن أدواتهم وأجهزتهم، يأسٌ من أنقاضهم التي يعملون على ترميمها، لكي يرونَ في الديناصور هدهداً يحمل الهدايا الملكية. جيلٌ يائسٌ، لكن من المثال السابق، من الهزائم المبثوثة في مشاريع الشعارات ومبتكرات القمع، (فالشعارات نوع من القمع أيضاً). يائسٌ هو من يمينٍ لا أمل فيه ومن يسارٍ يغدر بالأمل. يائس من قبيلة لا تقبل وليداً ما لم يقدم فروض الولاء للأسلاف، يائسٌ من حزبٍ يرى في المستقبل نوعاً من التأسيس على ماضٍ مهترئ وحاضر ينهار، يَقصرُ عن التاريخ وتتفلّـت الجغرافيا من بين يديه. يائسٌ من اليأس ومن الأمل معاً. لا يرى في ترميم الجثة غير إقتراح المآتم في عرسٍ وشيك، فليس أن تقدّس الميت، لكن أن تعلنَ احترامك له، ومن ثم تدفنه بمهابة التاريخ. فكل ترميم هو ضربٌ من التلفيق. الذين يقولون بيأس هذا الجيل، يريدونه أن يأمَـلَ في مشاريعهم فحسب. إن محاولة إقناع الماضي بالتجربة الجديدة، ومشروعيتها وحقها في الاعجاب بمستقبلها، ليس سوى جهد ضائع. ينبغي الاعتراف بإستحالة التفاهم مع الديناصور، إلا إذا كان ذلك مطلوباً كمظهر فلكلوري يستدعيه التقليد العربي السائد. لنترك الماضي لحرية إعتقاده بيأسنا والظن بفوضى الكتابة الجديدة وعبثيتها، وليلتبس عليه ما إذا كنا نعتبر ذلك الاعتقاد وهذا الظن مدحاً أو قدحاً، دون أن نكون مضطرين لرفع هذا الالتباس، فمن طابَ له السير في الظلام لا ينبغي أن نفسد عليه متعته. علينا أن نعترف بأن الجديد لم يعد معنياً بمباركة يمنحها إياه الأسلاف. لنعترف بأن شرط نجاح التجارب الجديدة، هو خروجها (الموهوب والواعي) على ظلام الماضي، ففي عدم نسخ السابقين تكريمٌ لهم إذا كانوا يعقلون. لماذا يتوجب علينا أن نبدو في موقف المتضرّع للماضي، فيما هو يمعن في التنكيل بنا. فليتخلّق الجديدُ الآن في غابة العرب المحترقة، مزدهراً مثل النار في الهشيم، ففي مشهد عربيّ ينهار بلا كبرياء، سيكون الحريق الأعظم زينة تمنح المشهد مجداً. ومَنْ لديه قطرة ماء عليه أن يطفئ بها ضمأ العطشى التائهين في هذه الغابة، لئلا تفوته فرصة النيران وهي تمدح الماء الجديد.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى