نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

الجذور و الأجنحة

صارَ للشعر العربي الآن أن يحتفي بالمنحنى التعبيري الذي يجتازه. لم تعد الصورةُ و لا الايقاع ولا اللغة هي الأدوات ذاتها، أعني المفاهيم ذاتها. ثلاثة أشياء يستطيع المتأملُ المختصّ أن يكتشف الاختراق ألذي أصابَها في جيلٍ جديدٍ من الكتابة (لئلا أقول من الشعراء).

يطيبُ (أعني يحقُّ) لنا القول بأن الأمور تجري كما يحلو. هو خرابٌ (للبعض أن يسميه) أجمل مما توقعناه، فكل كتابة تنقضُ الماضي بالحاضر، تذهبُ بنا إلى أجمل مجاهيل المستقبل. لم تعد لدينا رغبةٌ في معرفة مستقبلنا بالوضوح (الحديدي) الذي تسلّح به السابقون فيما يأتون إلينا (الآن). إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم المعصم. ربما لا نعرف، بالضبط، ما نذهب (إليه)، لكن من المؤكد أننا ندرك تماماً ما نذهب (عنه). وليكن من حق الآخرين أن يسمّو هذا خراباً (فربما حلى لنا ذلك أيضاً). مَنْ يملك حق منعنا عن ذلك، ليس ثمة آلهة في حقل الكتابة ولسنا العبيد المؤجلين. نحن أحفادٌ عاقون ولا يجوز الاستهانة بحقنا في ممارسة هذا العقوق إلى آخره. الكتابة بحرية الأحفاد يجوز لها أن تعتبر تخوم الأسلاف أقواساً مفتوحة على اللانهايات. ليست الكتابة مُلكية خاصة لجهة أو شخص أو طريقة. ولا يجوز أن نتوقف أمام (ناهيك أن نكترث لـ..) الاعتراضات الهستيرية التي تنتاب الكثيرين (بين وقت وآخر) وهم ينظرون إلى المشهد الشعري وهو يتلاشى ويتشظى ويشطُّ ويشطحُ خارجاً من صورته القديمة بمالايقاس من التنوع، حتى يكاد أن يدفع البعض إلى الذُعر ونَصْبِ المآتم واللطم والندب وإطلاق صيحات الاستنكار والاستعداء، مستنجداً بكل السلطات لإنقاذ الشعرَ مما يفعل مارقوا الكتابة من التجارب الجديدة.(هو الذي فشل في إنقاذ نفسه من الـ..) لا ينبغي أن نعبأ، و لا يجوز أن ننشغل بمهمة إقناع أولئك بأن ما يحدث هو من طبيعة الأشياء. لا يملك أحدٌ سلطة مصادرة حق (الهدم الفاتن) من جيل يقدر أن يفعل، ذلك بدرجة لا بأس بها من الحيوية والحرية ولامنتهى المخيلة. إنها حريتنا الوحيدة الآن، الأخيرة الآن، بعد مصادرة كل شيئ، كل شيئ بلا إستثناء. ولا نريد أكثر من ذلك... الآن !!

ليست لدينا معجزات، نحن مخيلةٌ وليلٌ زاخرٌ بالأحلام وفراديس مكبوتة قيد الهجم. مَنْ يجرؤ على رصد خطواتنا وصدّها، الأسلافُ يقصرون عن ذلك، ومبعوثوهم يفشلون في المباهاة بماضٍ يمضي. نَفكّ أسرى الظلام لكي تفسدَ على الكهنة خلوةَ الاعتراف. في الكتابة الحرة نتحرر من الكوابيس التي نتجرّعها من المهد إلى اللحد، (وهي مسافة قيل إنها لطلب المعرفة). لم تعد الكتابة (قصيدة) واحدة بالشكل الذي عهدناه و ورثناه من الآباء والأجداد، صارت (مقاصِدَ كثيرة). سابقاً صَنعَ الأسلافُ قصراً واحداً لكل أشكال الطيور والفراشات. حسناً فعلوا آنذاك، الآباء والأجداد، إنهم أسلافٌ نالوا التبجيلَ أكثر مما يستحقون، نالوه وذهبوا (لئلا أقول ماتوا) وشكراً لأنهم فعلوا ذلك (أعني أنهم ذهبوا). ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ لقد كانوا هنا، وصاغوا حياتهم وطريقة قولهم كما يحبون ويستريحون، وكان ذلك حقهم الصَراح، ينبغي أن يكفّوا الآن عن محاولة إثارة الضجيج حول ما أنجزوه، فقد نالوا المديح حتى أصابتهم التخمة وأوشكنا على القَرَف. بقي أن يتيحوا لأحفادهم حرية هدم كل ذلك الصرح الذي أخذ يناله البلى والفساد لفرط التبجيل. ليست الكتابة سوى فعل الهدم الجميل الذي إنتظره الوقتُ والمكانُ منذ طفولة الأشياء، هدم صورةَ كل ما لا يَصدرُ عن (..الآن.. وهنا)، هدمٌ هو البناء الحميم لصورة ما يتجاوب مع الأعماق المحبوسة. وها هو جيلٌ فتيٌّ قضى أجملَ سنوات عمره في محاولة بائسة (ويائسة أيضاً) لأن يقنعَ أصحابَ الماضي وسدنة التقليد بأنه جيلٌ جديرٌ بمايفعل، من اختراق المقدسات الأدبية التي تحولتْ (بفضلهم) طوطماً يضاهي الأديان، وآن لأن يصبح هذا من حقنا. الآن ينبغي أن نعترف : لقد كان وقتاً مهدوراً ليس له أن يتكرر أو يستمر. لماذا يتوقع منا هؤلاء أن نقبع كل الوقت عند عتبة مرضاتهم، كما لو أنهم حراس الفراديس، آن لهم إذن أن يقعوا ضحية وهمهم. فما يحدث في المشهد الشعري الآن هو المنحنى الجذري الذي عليهم أن يشهدوه.. ويرفضوه، بالحرية نفسها التي نتطلبها فيما ننظرُ إلى مقدّس التراث الشاسع الفضفاض. هذا جيل يثبتُ أن لاشيئ يصمد أمام الانهيار الشامل الذي يجتاح الكيان العربي منذ أكثر من عقدين وليل طويل ومنتهى المصادرات ومباهات بالتفسّخ. لماذا يتوقع الآخرون (في مشهد الانهيار الشامل) أن تبقى الكتابة (الكتابة فقط) على صورتها الأولى، أو أن تكتفي، في أحسن الأحوال، ببعض التغييرات الطفيفة التي لا تمسّّ الجذور. لماذا يتوقع الآخرون بأن كل جيل سيظل يقدّس هذه الجذور الأولى حتى الأزل.

لماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حرية الأجنحة ؟.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى