نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

ذهبوا ، وردةً في كتاب

1

دفتر الذاكرة يتوهج كلما شَعّتْ فيه أطيافُ أصدقاءٍ ذهبوا باكراً إلى سرير الأرض، وانتخبوا لهم نوماً مبكراً. أصدقاءٌ يمنحون الذاكرة طاقة الرؤيا، مثل عرافين سئموا بلهنية ناسٍ يضربون في التيه متوهمين أنها الطريق. أًصدقاء لا تذكرهم روزنامة الوقت، وليس في الكتب وصفٌٌ يليق بهم، كما لو أنهم جاءوا، مشغوفين بحلم يتجاوز التخوم، في زمنٍ لا يعبأ بالأحلام. دفتر الذاكرة يمنح القلب طاقة لا نهائية، لكي يعيدَ صياغةَ العالم على هواه. شهدوا لنا بالحب وذهبوا، وتركوا الوردةَ نائمةً في الكتاب، فالموت لا يقدر على مصادرة حق الصداقة، مثلما يفترق العشاقُ ليبقى الحب.

2

ورشة الأمل
بعد اسمه، يحلو لي أن أتركَ السطرَ مفتوحاً على الأفق. لا نقطةٌ ولا فاصلة، فبعد ذهابه تضاعفت وحشة قلعتي، وصار البردُ نواجزَ نمورٍ تحتاز جسدي، في ليلٍ لا تزخرفه الأحلام. لم أصادف صديقاً أحبَ الوطنَ على طريقته، أحلامُه في خطواته، وله أحلامٌ بعدد تلك الخطوات، كان يذرع الكرة الأرضية كما لو أنها أملاكه المنهوبة، لم يعرف ترفاً في حياته ولم يسع إليه. زاهدٌ في كل شيئ سوى شهوة الحياة الكريمة الشاملة. يعرف الحلمَ بوصفه طريقة حياة، حياةٌ تتصل وتصدر من أصغر تفاصيل السلوك، لا تروق له جملة الشِعار، ويقدر على صياغة أفكاره بأبسط الكلمات، لا يتنازل عن الجوهر ولا يفرّط فيه. يصغي لقصيدتي الأخيرة،ثم يبتسم: "الشعرُ عالم رابع، ونحن لا نزال في العالم الثالث" تعلمتُ منه (دون أن يسعى للوعظ) أن الحياة هي أن تقدر على الانسجام مع ذاتك بمعزل عن القيم السائدة والأفكار المسبقة الرائجة. وتعلمت منه (مثلما أدركتُ مع أحد المتصوفة فيما بعد) أن الحرية هي أن لا تملك شيئاً فلا يملكك شيئ. لقد كان حراً على طريقته، عاشَ كذلك وماتَ كذلك، ولم يزل حتى اللحظة الأخيرة قبل القيد، ليذهب إلى سرير الأرض مختاراً وبكامل طاقته الكامنة في الروح والجسد، لكنه ترك لنا الحيرة. لم نتيقن أنه مات، أوهمنا أنه ذاهبٌ الي السوق لشراء بعض الفاكهة، وإذا كان قد تأخرَ قليلاً، فذلك لأن الفاكهة لم تنضج بعد، وإنه ينتظرها. عندما كان يداعب طفلتي في سنتها الأولى يتساءل : علينا أن نساعد هذه الطفولة لكي تحصل على مسقبل أجمل؟ لم يشك في ذلك، كان شديد الوثوق في ذلك. ذلك الذي فشلنا في تحقيقه حتى الآن. ليس سهلاً أن تفقد صديقاً مثله دون أن يتضاعف نفورك من هذا العالم المتروك في المسلخ مثل جيفة يتناهبها الضباع.

3

الغلام صاحب الأحلام
عندما صادفتنا العرافةُ في أحد شوارع بيروت ذات شتاء، كنا ثلاثة، جلسنا إليها لتقرأ مستقبلنا، رأتْ له مستقبلاً غامضاً عجزتْ عن وصفه، لكنها، فيما كانت تحاول ذلك، بدتْ لنا في وطأة جسدها المنتفض، تتشبث بنفسها مثل ريشة تتفادى إعصاراً، مرتكزةً على قدميها في نصف قرفصاء، وطفلها يكاد أن ينفلت من حضنها لفرط انتفاض جسدها. لم أزل أذكر الذعر الذي كان ينبعث من عينيها وهي تقول له : "جسمك الضئيل لن يحتمل حياتك الشاقة، ماءٌ يفيض على الاناء، تغيبُ عن بيتك طويلاً لتذهب إليه في نهاية الأمر، ثم لن يرأفَ بك أحدٌ بعد ذلك، كما لو أنك وحدك تحاربُ جيشاً"، ولم نكن (هو وأنا وصديقنا) ندرك كيف تيسّّر لهذه العرّافة أن ترى مستقبلاً صاعقاً مثل هذا. كان الوقتُ بجانب العرافة أكثر مما توقعنا.لقد جاءَ متأخراً إلى الوطن ليذهب مبكراً إلى النوم، ينام ويتركنا لليلٍ لا ينتهي، ولا نوم فيه. عرفته في بيروت أكثرَ مما عرفته هنا، حتى أنني لا أكاد أحمل له صورة واضحة متكاملة في الوطن، فعندما جاءَ وعندما ذهب، كنت في غيبوبة البيت. المرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت أسرع من أن تسمح لنا بتبادل النظر، لم يلمحني لحظتها، فقد كنتُ في سيارة تسرع بي إلى مَنْ يُضاعف غيابي، وكان هو بين رصيفين، يعبرُ طريقاً في شارع قريب من القلب، ويبدو أنه لم يحسن العبور في مدينة تتفاقم حوادث المرور فيها بقضاء وقدر مرسومين. وبعد أن سمعت خبر ذهابه إلى الموت، تذكرتُ تلك العرافة، مرتعدة الفرائص، كمن تحاول السيطرة على عاصفة في جسدها. لقد كان أصغر كثيراً من تلك العاصفة التي صعقتنا جميعاً، وكان مثل فراشة تحت الحربة الضارية. لقد غادر غابة الضواري في الوقت الذي كنا نحاول إكتشاف فصل غير الشتاء والصيف. هل كان هو فصلنا الذي لم نكتشفه بعد؟. دفتر الذاكرة لم يزل دافئاً بصورة الفتى صاحب الخطوات الخفيفة نحو مستقبل لا يكتمل، خطواته الرشيقة وهو يعبرُ الطريق.

4

شاعر منتهى الماء
أحد الذين ارتهنوا مبكراً بالصلة بين حلمين : الشعر والحرية. جاء من القرى المنسية ليصرخ بحضارة الأسمنت التي اقتحمتْ حياتنا، بكل ما في هذه الاشارة من دلالات شعرية واجتماعية. أطلقَ صرخته في بريتنا، فلم يسمعه أحد. ففي عالم مثل هذا، مَنْ يكترث بكلمة الشعر ونحيب الشاعر أمام بوابة الحياة الرهيبة.
"يحزم الحجارة بالعشب.
أحداقه كالوقت
مزج الحبيبة بالوطن.
هو ذاك
سريعاً يصوغ مخلوقاته
سريعاً يقول، سريعاً يفعل
وسريعاً يموت.
صديقي الذي كان
صغيراً على الحب والشعر و الوطن
ذهب سعيداً في الموت"

شهادةُ الدلالات، فالكلمة لا تعود محبوسة في الكتاب، بعد الكتابة والموت، تصبح قرينة الحياة المنطلقة، ذاهبة إلى العنوان الصائب مباشرة، حيث المسافة بين الدم والجرح أصغر من أن تختزل وأكبر كثيراً من الكلام. صديق مر علىنا سريعاً مثل احتمال الشعر وقهقهة الحياة، سمعنا بقاياه وهو في الانتظار، فذهب قبل كل شيء، قبل الشعر والحب، ولم يزل في دفتر الذاكرة.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى