نقد الأمل

الطبعة الأولى 1995
دار الكنوز - بيروت
الغلاف طالب الداوود
عدد الصفحات 147
الطبعة الثانية ‏1998‏
دار الكنوز - بيروت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 208

 

صداقة لا يمكن تفاديها

هل كان عليّ أن أعرفَ مبكراً أن صداقةً من هذا النوع (حيث جنون الابداع الذي بلا حد) بمقدورها أن تجعلني عرضةً للمكابدات و المواجع و القلق ؟!
ونحن الذين قلنا أن في هذا الجنون الحميم لجوء إلى إسعاف الروح من عسف الواقع الذي بات التفاهم معه مستحيلاً ؟!
هل يتحتم عليّ دوماً أن أكون ضحية أوهام متصلة بطاقة العطاء، دون أن يثيرَ ذلك تذمر أحد، أو يدفع غيره إلى الغضب، بسبب فشلي في تقمص موهبة الميزان ؟!
ونحن الذين قلنا - ذات موت - أن مكاتبة الأرواح المحبوسة في قفص الجسد، إنما هي شكل من أشكال الغواية الجميلة التي نتبادل أنخابَها بمعزلٍ عن الأقواس الجهنمية التي يريدنا الآخرون أن ننحني تحتها (ذهاباً وأيابا) لكي نبدو مخلوقات مهذبة ومستأنسة (.. وتسمع الكلام) ؟
لماذا يتوجب علينا أن نصادفَ أنفسنا تطرح الأسئلة المتفجرة طوال الأشهر الأخيرة، لكي لا نسمع إلا احتدام اللهجات وتوهم الحروب الصغيرة بين كائنات توهمت (المرة تلو الأخرى) أن شفق الروح الجديدة التي نتولع بها من شأنها أن تصعد عن بقايا الانسان الأول. هل يتوجب عليّ أن أستمر في توهم ما لا يقبل الوهم) ؟!

لماذا، كلما ذهبتُ في الفتك بمعادلات علاقة الكلام بالكتابة، الصداقة بالحب، الفضة بالذهب، المطر بالشمس، الروح بالجسد، الوردة بالحجر، النوم بالحلم... إنتابني الغضب الآخر، كما لو أنني خرجتُ عن النص ؟!
لا أعرف ما إذا كان هناك من يتوقع مني سلوكاً لا أحسنه، ربما لأنني لم أشعر، في وقت من الأوقات، بأني " شيء " قابل للإحتكار، أو أنني مصاب بذات العين الوحيدة الواحدة المتوحدة.

أنا الذي لا أجد نفسي إلا في التعدد والكثرة واللانهائية. ربما لصلة غامضة بالفتى القتيل البعيد، طرفة بن (الوردة)، الذي خرجَ عن معادلات القبيلة ولم يعد. أكثر من ذلك، فأنني شظية من الصعلوك الأنيق عروة بن الورد، الذي لم يكف عن توزيع جسمه في جُسومٍ كثيرة، فيما أمعنُ في تهلكة توزيع قلبي في قلوب كثيرة، بصورة تجعل للحب مفهوماً أقربَ إلى الفوضى الفاتنة منه إلى النظام. ألم نقل - ذات مغامرة - أننا ذاهبون إلى ما لا نعرف من مباغتات الحرية التي نتمرّغ بها مثل النمور شبقاً بنَمرةٍ تنتظر ؟!

ها نحن (من حيث لا ندري أيضاً) في المسافة النارية التي يتوجب علينا أن نشغفَ بها ونعبأ ونكترث، لئلا نصابَ بوهم الواحدية والنهايات. وفي هكذا صداقة (حيث الجنون لا نهاية له) نكون أجمل عندما ننسى ضمير الأنا -الواحد ونرى إلى الأفق الوسيع. هل سيعرف هذه البديهيات أولئك الآخرون الذين لم يتوقفوا عن دفعنا إلى اليأس الأقصى.. بلا هوادة ؟!
لديَّ من الشجن ما لا يوصف، وما لا أقدر على إحتماله وحدي. ففي هذه الروح يسكن ألمٌ أكاد لا أعرف حدوده من حدود القلب، ويمكنني أن أبني به مدينة، ويجوز للثاكل والعاشقةالمغدورة والدم المهدور أن يعتبروا قلبي غرفة شاغرة لدفئهم. (مرة قيل إنما القلب جرح نازف يتخذ إسماً غريباً).

ترى هل لنا أن نفتحَ النوافذَ والأبواب الموصدة، أم نكسرها ونبني من خشبها درجاً يأخذ إلى الأعماق المكبوتة. أيتها الملائكة المؤجلين، لا أكاد أعرف تماماً ما الذي يدور عندكم هناك. أنا المعلق بكم مثل كوكب في سديم المجرة. ما كان ينقصني إلا المروق الخاطف، المكتوب بخطٍ أليفٍ (حاول البريدُ أحيانًاً نسيان العنوان) مشحون بتوقعات (مناخية)، لولا أنني مذعور لكنتُ أصبتُ بالذعر لفرط إحتمالاتها المدمرة.

لماذا، بعد ذلك الغياب الطويل، تحضرون إليَّّ بكل هذه النيازك، التي بدل أن تفسر الغيابَ، تضاعفُ الغموض في المشهد الواضح الأليف.

هل أنتم هنـاك إلى هذا الحد ؟!

وهل " هناك " بعيد بهذه الصورة الفاجعة ؟!
اختزال مقتضب إلى هذه الدرجة، من شأنه أن يفتك بالبقية من قدرتي على الجهل الذي تقذفوننا به منذ حين.

ليس ثمة جهة تصغي للأسئلة، ولا جهة أثق في ثقتها بي.
ما من صداقة كهذة، إدخرتُـها لشهوة الأعالي، فادخرتْ لي كل هذا العذاب. أنا الذي منحتُ ولعي بها مثل وعلٍ يعتقد بحرية السهول وشموخ الريح. صداقة على هذه الشاكلة، ما كان لها أن تضعني في هامش الظن، فيما كنت أضعها في شهامة الوعي الناضج.

ربما كنتُ ضحية المبالغات التي ارتكبتها في هياج ولعي بصداقة من هذا النوع (حيث الجنون إله الروح). وهي مبالغات لا براءة لي منها، وليس في النية التنازل عن فتنتها. فهي في طبيعة الشاعر مثل جوهرة المراصد.
لو كان لشجن الروح صوتٌ، لتحتم عليكم أن تسمعوه الآن، مثل نشيج نرجسة في قدح النبيذ الأخير.

لقد كنتُ طوال الوقت أتشبثُ بالحمم المتصاعدة من البراكين كلها. دون الغفلة عن أجمل الأحلام، (... التي لم يزل هناك من يزعم بأنها ضربٌ من الأوهام)0

.. لم لا.
فهذا هو نصيبنا في حربٍ لا نحسنُ القتالَ فيها، مأخوذين بأضعف الضحايا وأكثرها غواية، واثقين في جوهرة المراصد.. لا تزال.
يا ألله..
هذه هي كأس النبيذ الحزين،
وليس ثمة نرجسة للمساء.*

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى